كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أما المعجزات الأخرى مثل العصا التي ضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، ونتق الجبل فوقهم كأنه ظُلَّة، وإنزال المنِّ والسَّلْوى عليهم، فهذه آيات خاصة ببني إسرائيل.
وقوله تعالى: {فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ..} [الإسراء: 101] والأمر هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن كيف يسأل بني إسرائيل الذين جاءهم موسى- عليه السلام- وقد ماتوا، والموجود الآن ذريتهم؟ نقول: لأن السؤال لذريتهم هو عَيْن سؤالهم، لأنهم تناقلوا الأحداث جيلًا بعد جيل؛ لذلك قال تعالى مُخاطبًا بني إسرائيل المعاصرين لرسول الله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذالِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ} [إبراهيم: 6]
والنجاة لم تكُنْ لهؤلاء، بل لأجدادهم المعاصرين لفرعون، لكن خاطبهم الحق بقوله: {أَنجَاكُمْ} لأنه سبحانه لو أهلك أجدادهم لما وُجِدُوا هم، فكأن نجاة السابقين نجاةٌ للاحقين.
ويسأل رسول الله بني إسرائيل لأنهم هم الأمة التي لها ممارسة مع منهج الله ووحيه، ولها اتصال بالرسل وبالكتب المنزَّلة كالتوراة والإنجيل، أما مشركو قريش فليس لهم صِلَة سابقة بوَحْي السماء؛ لذلك لما كذَّبوا رسول الله خاطبه بقوله:
{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43]
لأن الذي عنده عِلْم من الكتاب: اليهود أو النصارى عندهم عِلْم في كتابهم وبشارة ببعثة محمد، وهم يعرفونه ويعرفون أوصافه وزمن بعثته، بل ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم، بل وأكثر من معرفتهم لأبنائهم، كما قال واحد منهم.
وسؤال رسول الله لبني إسرائيل سؤالَ حُجَّةٍ واستشهاد؛ لأن قومه سألوه وطلبوا أنْ يظهر لهم عدة آيات- سبق ذِكْرها- لكي يؤمنوا به، فأراد أنْ يُنبّههم إلى تاريخ إخوانهم وسابقيهم على مَرِّ العصور، وقد أنزل الله لهم الآيات الواضحات والمعجزات الباهرات ومع ذلك كفروا ولجُّوا ولم يؤمنوا، فقوم فرعون رَأَوْا من موسى تسع آيات وكفروا، وقوم صالح: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا..} [الإسراء: 59] ولَيْتهم كذَّبوا وكفروا بهذه الآية فحَسْب، بل واعتدَوْا عليها وعقروها.
لذلك قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ..} [الإسراء: 59] أي: التي اقترحوها{إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ..} [الإسراء: 59] وما دام كذَّب بها الأولون فسوف يُكذِّب بها هؤلاء؛ لأن الكفر مِلَّة واحدة في كل زمان ومكان.
إذن: مسألة طلب الآيات واقتراح المعجزات ليستْ في الحقيقة رغبة في الإيمان، بل مجرد عناد ولَجَج ومحاولة للتعنُّت والجدَل العقيم لإضاعة الوقت.
ثم يقول تعالى: {فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ} [الإسراء: 101] أي: بعد أنْ رأى الآيات كلها: {إِنِّي لأَظُنُّكَ يامُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101] فاتهمه بالسحر بعد أنْ أراه كُلَّ هذه الدلائل والمعجزات.
وكلمة {مَسْحُورًا} [الإسراء: 101] اسم مفعول بمعنى سحره غيره، وقد يأتي اسم المفعول دالًا على اسم الفاعل لحكمة، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا} [الإسراء: 45]
والحجاب يكون ساترًا لا مستورًا، لكن الحق سبحانه جعل الحجاب نفسه مستورًا مبالغة في السَّتْر، كما نبالغ نحن الآن في استعمال الستائر، فنجعلها من طبقتين مثلًا.
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {ظِلًا ظَلِيلًا} [النساء: 57]
فالظل نفسه مُظلَّل، ونستطيع أن نلاحظ هذه الظاهرة إذا جلسنا في الحرِّ تحت شجرة، فسوف نجد الهواء تحتها رَطبًا باردًا، لماذا؟ لأن أوراق الشجر مُتراكمة يُظلّل بعضها بعضًا، فتجد أعلاك طبقات متعددة من الظل، فتشعر في النهاية بجو لطيف مُكيف تكييفًا ربانيًا.
إذن: قوله: {مَسْحُورًا} تفيد أنه سحَر غيره، أو سحره غيره؛ لأن المسحور هو الذي أَلَمَّ به السحر، إما فاعلًا له، أو مفعولًا عليه. وهذه الكلمة قالها كفار مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا} [الإسراء: 47] والمسحور بمعنى المخبول الذي أثّر في السحر، فصار مخبولًا مجنونًا، وهذا كذب وافتراء على رسول الله من السهل رَدُّه وضَحْده.
فإنْ كان ساحرًا، فكيف يسحره غيره؟! ولماذا لم يسحركم كما سحر الذين آمنوا به؟ لماذا تأبَّيتم أنتم على سحره فلم تؤمنوا؟ وإنْ كان مسحورًا مَخْبُولًا، والمخبول تتأتّى منه حركات وأقوال دون أنْ تَمُرّ على العقل الواعي الذي يختار بين البديلات، فلا يكون له سيطرة على إراداته ولا على خُلقه، فهل عهدكم بمحمد أنْ كان مَخبولًا؟ هل رأيتم عليه مثل هذه الصفات؟
لذلك رَدَّ الحق سبحانه عليهم هذا الافتراء بقوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 1-4]
والمجنون لا يكون على خُلُق أبدًا.
وسوف يناقض فرعون نفسه، فبعد أنْ اتهم موسى بالسحر، ثم كانت الغَلَبة لموسى، وخَرَّ السحرة ساجدين، قال: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ..} [طه: 71] وهذا دليل على التخبُّط والإفلاس.
ثم يقول الحق سبحانه: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَاؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ..}.
أي: قال موسى لفرعون، والتاء في {عَلِمْتَ} مفتوحة أي: تاء الخطاب، فهو يُكلِّمه مباشرة ويُخاطبه: لقد علمتَ يا فرعون عِلْمَ اليقين أنني لستُ مسحورًا ولا مخبولًا، وأن ما معي من الآيات مما شاهدته وعاينته من الله رب السماوات والأرض، وأنت تعلم ذلك جيدًا إلا أنك تنكره، كما قال تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا..} [النمل: 14]
إذن: فعندهم يقينٌ بصدق هذه المعجزات، ولكنهم يجحدونها؛ لأنها ستزلزل سلطانهم، وتُقوِّض عروشهم.
وقوله تعالى: {بَصَآئِرَ..} [الإسراء: 102] أي: أنزل هذه الآيات بصائر تُبصّر الناس، وتفتح قلوبهم، فيُقبلوا على ذلك الرسول الذي جاء بآية معجزة من جنس ما نبغَ فيه قومه.
ثم لم يَفُتْ موسى- عليه السلام- وقد ثبتتْ قدمه، وأرسى قواعد دعوته أمام الجميع أنْ يُكلِّم فرعونَ من منطلق القوة، وأن يُجابهه واحدة بواحدة، فيقول: {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافِرْعَونُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102] فقد سبق أنْ قال فرعون: {إِنِّي لأَظُنُّكَ يامُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101] فواحدة بواحدة، والبادي أظلم.
والمثبور: الهالك، أو الممنوع من كُلِّ خير، وكأن الله تعالى أطْلعَ موسى على مصير فرعون، وأنه هالكٌ عن قريب. وعلى هذا يكون المجنون على أية حال أحسن من المثبور، فالمجنون وإنْ فقد نعمة العقل إلا أنه يعيش كغيره من العقلاء، بل ربما أفضل منهم، لأنك لو تأملتَ حال المجنون لوجدته يفعل ما يشاء ويقول ما يشاء دون أنْ يتعرّض له أحد أو يُحاسبه أحد، وهذا مُنْتَهى ما يتمناه السلاطين والحكام وأهل الجبروت في الأرض، فماذا ينتظر القادة والأمر إلاَّ أن تكون كلمتهم نافذة، وأمرهم مُطَاعًا؟ وهذا كله ينعَم به المجنون.
وهنا يقول قائل: ما الحكمة من بقاء المجنون على قَيْد الحياة، وقد سلبه الله أعظم ما يملك، وهو العقل الذي يتميز به؟
نقول: أنت لا تدري أن الخالق سبحانه حينما سلبه العقل ماذا أعطاه؟ لقد أعطاه ما لو عرفته أنت أيُّها العاقل لتمنيتَ أنْ تُجَنَّ!! أَلاَ تراه يسير بين الناس ويفعل ما يحلو له دون أنْ يعترضه أحد، أو يؤذيه أحد، الجميع يعطف عليه ويبتسم في وجهه، ثم بعد ذلك لا يُحاسَب في الآخرة، فأيُّ عِزٍّ أعظم من هذا؟
إذن: سَلْب أيّ نعمة مساوية لنعم الآخرين فيها عطاء لا يراه ولا يستنبطه إلا اللبيب، فحين ترى الأعمى مثلًا فإياك أنْ تظنّ أنك أفضل منه عند الله، لا ليس مِنّا مَنْ هو ابنٌ لله، وليس مِنّا مَنْ بينه وبين الله نسب، نحن أمام الخالق سبحانه سواء، فهذا الذي حُرِم نعمة البصر عُوِّض عنها في حواس أخرى، يفوقك فيها- أنت أيها المبصر- بحيث تكون الكِفَّة في النهاية مُسْتوية.
واسمع إلى أحد العِمْيان يقول:
عَمِيتُ جَنِينًا والذكَاءُ مِنَ العَمَى ** فجئتُ عَجِيبَ الظَّنِّ للعِلْم مَوْئِلًا

وَغَاب ضِيَاءُ العَيْن للقلْبِ رافدًا ** لِعِلْمٍ إذَا مَا ضيَّع الناسُ حَصّلا

فحدِّث عن ذكاء هؤلاء وفِطْنتهم وقوة تحصيلهم للعلم ولا حرج، وهذا أمر واضح يُشاهده كُلُّ مَنْ عاشر أعمى. وهكذا تجد كُلَّ أصحاب العاهات الذين ابتلاهم الخالق سبحانه بنقص في تكوينهم يُعوِّضهم عنه في شيء آخر عزاءً لهم عما فَاتهم، لكن هذا التعويض غالبًا ما يكون دقيقًا يحتاج إلى مَنْ يُدرِكه ويستنبطه.
وكذلك نرى كثيرين من هؤلاء الذين ابتلاهم الله بنقْصٍ ما يحاولون تعويضه ويتفوقون في نواحٍ أخرى، ليثبتوا للمجتمع جدارتهم ويُحدِثوا توازنًا في حياتهم ليعيشوا الحياة الكريمة الإيجابية في مجتمعهم.
ومن ذلك مثلًا العالم الألماني شاخْت وقد أصيب بِقصَرٍ في إحدى ساقيْه أعفاه من الخدمة العسكرية مع رفاقه من الشباب، فأثَّر ذلك في نفسه فصمَّم أنْ يكون شيئًا، وأنْ يخدُمَ بلده في ناحية أخرى، فاختار مجال الاقتصاد، وأبدع فيه، ورسم لبلاده الخُطّة التي تعينها في السِّلْم وتعويضها ما فاتها في الحرب، فكان شاخْت رجل الاقتصاد الأول في ألمانيا كلها.
ويجب أن نعلم أن التكوين الإنساني وخَلْق البشر ليس عملية ميكانيكية تعطي نماذج متماثلة تمامًا، إبداع الخالق سبحانه ليس ماكينة كالتي تصنع الأكواب مثلًا، وتعطينا قِطَعًا متساوية، بل لابد من الشذوذ في الخَلْق لحكمة؛ لأن وراء الخلق إرادة عليا للخالق سبحانه، ألا ترى الأولاد من أب واحد وأم واحدة وتراهم مختلفين في اللون أو الطول أو الذكاء.. إلخ؟!
يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ..} [الروم: 22]
إنها قدرةٌ في الخَلْق لا نهاية لها، وإبداعٌ لا مثيلَ له فيما يفعل البشر.
وهناك ملْمح آخر يجب أن نتنبه إليه، هو أن الخالق سبحانه وتعالى جعل أصحاب النقص في التكوين وأصحاب العاهات كوسائل إيضاح، وتذكُّر للإنسان إذا ما نسى فضْل الله عليه، لأنه كما قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6-7]
فالإنسان كثيرًا ما تطغيه النعمة، ويغفل عن المنعم سبحانه، فإذا ما رأى أصحاب الابتلاءات انتبه وتذكّر نعمة الله، وربما تجد المبصر لا يشعر بنعمة البصر ولا يذكرها إلا إذا رأى أعمى يتخبَّط في الطريق، ساعتها فقط يذكر نعمة البصر فيقول: الحمد لله.
إذن: هذه العاهات ليستْ لأن أصحابها أقلُّ مِنّا، أو أنهم أهوَنُ على الله.. لا، بل هي ابتلاء لأصحابها، ووسيلة إيضاح للآخرين لِتلفِتهم إلى نعمة الله.
لكن الآفة في هذه المسألة أنْ ترى بعض أصحاب العاهات والابتلاءات لا يستر بَلْوَاه على ربه، بل يُظهِرها للناس، وكأنه يقول لهم: انظروا ماذا فعل الله بي، ويتخذ من عَجْزه وعاهته وسيلةً للتكسُّب والترزّق، بل وابتزاز أموال الناس وأَخْذها دون وَجْه حق.
وفي الحديث الشريف: «إذَا بُلِيتم فاستتروا».
والذي يعرض بَلْواه على الناس هكذا كأنه يشكو الخالق للخَلْق، ووالله لو ستر صاحب العاهة عاهته على ربه وقبلها منه لساقَ له رزقه على باب بيته. والأدْهَى من ذلك أن يتصنّع الناس العاهات ويدَّعوها ويُوهِموا الناس بها لِيُوقِعوهم، وليبتزّوا أموالهم بسيف الضعف والحاجة.
نعود إلى قصة موسى وفرعون لنستنبط منها بعض الآيات والعجائب، وأوّل ما يدعونا للعجب أن فرعون هو الذي ربَّى موسى منذ أنْ كان وليدًا، وفي وقت كان يقتل فيه الذكور من أبناء قومه، لنعلم أن الله يحول بين المرء وقلبه، وأن إرادته سبحانه نافذة. فقد وضع محبة موسى في قلب فرعون وزوجته فقالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص: 9]
فأين ذهب عداوتُه وبُغْضه للأطفال؟ ولماذا أحبَّ هذا الطفلَ بالذات؟ ألم يكُنْ من البديهي أنْ يطرأ على ذِهْن فرعون أن هذا الطفل ألقاه أهله في اليَمِّ لينجو من القتل؟ ولماذا لم تطرأ هذه الفكرة البديهية على ذِهْنه؟ اللهم إلا قوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ..} [الأنفال: 24]
لقد طمس الله على قلب فرعون حتى لا يفعل شيئًا من هذا، وحال بينه وبين قلبه لِيُبيِّن للناس جهل هذا الطاغية ومدى حُمْقه، وأن وراء العناية والتربية للأهل والأسرة عنايةُ المربّي الأعلى سبحانه.
لذلك قال الشاعر:
إذَا لَمْ تُصَادِفْ مِنْ بَنيكَ عِنَايةً ** فَقدْ كذبَ الرَّاجِي وَخَابَ المؤملُ

فمُوسَى الذِي رَبَّاهُ جِبْريلُ كافِرٌ ** وَمُوسَى الذِي رَبَّاه فِرْعَوْنُ مُرْسَلُ

ثم يقول الحق سبحانه: {فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ..}.
{فَأَرَادَ} أي: فرعون. {أَن يَسْتَفِزَّهُم} كلمة استفزَّ سبق الكلام عنها في قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ..} [الإسراء: 64] فالاستفزاز هو الإزعاج بالصوت العالي، يقوم المنَادَى ويخفّ من مكانه، وهذا الصوت أو هذه الصَّيْحة يُخرجها الفارس أو اللاعب كما نرى في لعبة الكراتيه مثلًا لِيُزعِج الخصم ويُخيفه، وأيضًا فإن هذه الصيحة تشغَل الخَصْم، وتأخذ جزءًا من تفكيره، فيقِلّ تركيزه، فيمكن التغلُّب عليه. ومن الاستفزاز قَوْل أحدِنا لابنه المتكاسل: فِزْ. أي: انهض وخِفّ للقيام.
إذن: المعنى: فأراد فرعون أنْ يستفزّهم ويخدعهم خديعة تُخرِجهم من الأرض، فتخلو له من بعدهم، وهذا دليلٌ على غباء فرعون وتغفيله وحماقته، فما جاء موسى إلا ليأخذ بني إسرائيل، كما جاء في قوله تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 16-17]